انتقل المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ- إِلَى التفريق بين الأعيان وبين المعاني أو الكلام من حيث وجودها أو ظرفيتها في الشيء كما عبر في آخر الكلام السابق، والمراد بهذه المعاني الأربعة؟
يقول: إن الحقائق لها وجود عيني وذهني ولفظي ورسمي، والكلام هذا قد يبدوا أنه صعب لكنه في الحقيقة سهل وبسيط إن شاء الله.
فبين أن الأشياء لها عدة وجودات وجود عيني، ويعني به: وجود العين الحقيقية ذاتها، فمثلاً الجبل وجوده العيني هو المشار إليه عندما تقول: هذا جبل وهو أمامنا، ونحن عَلَى الطبيعة فوجوده هنا اسمه للوجود العيني، والوجود الآخر وجود ذهني، كأن أقول لك: أنا في ذهني جبل معين أتخيله وأتصوره، فهذا تصور ذهني لذات جبل ما، والوجود اللفظي هو عندما أقول: جبل، فأنا لم أقل: شجرة ولا زيد ولا عمرو، وإنَّما قلت: جبل.
وعندما أشير إليه وأقول: هذا جبل فأنا أقصد هذه الألفاظ أي: "جيم وباء ولام" حتى لا يشتبه عندك أني أقول مثلاً جمل، فوجوده هنا وجود لفظي، وهناك وجود آخر يسمى الوجود الرسمي، يعني: الرسم والخط والكتابة كأن أكون كتبت كلمة جبل، فأقول لك هذا جبل، معناه: هذا رسم أو شكل كلمة جبل.
فنجد في كل إطلاق أن المعنى يختلف؛ لكن في المجموع الكلام كله صحيح وكله حقيقي، وليس فيه مجاز يقول: لكن الأعيان الحقيقية الخارجية تعلم، ثُمَّ تذكر، ثُمَّ تكتب، فالكلام كأنه مر بأربع تعيينات في الوجود وجود عيني وذهني ولفظي ورسمي وكتابتها في المصاحف هي المرتبة الرابعة.

يقول: [وأما الكلام، فإنه ليس بينه وبين المصحف واسطة؛ بل هو الذي يكتب بلا واسطة ذهن ولا لسان].
والمقصود أن الكلام ليس مخلوقاً متشخصاً قائماً بذاته نشير إليه، فنقول: هذا هو الكلام، وإن أشرت فلا بد أن أشير فقط إما إِلَى الوجود اللفظي الذي أتكلم به، وإما أن أشير إِلَى الوجود الرسمي الذي هو الكتابة أو الحروف، فأقول لك: هذا كلام فلان أي: هذا كلام فلان الذي نطق به، أو هو مكتوب، فلا واسطة بين هذا وذاك بوجود حقيقي بذاته، كما قال هاهنا في الأخيرة: إن الكتاب يذكر تارة ويراد به محل الكتابة، ويذكر تارة ويراد به الكلام المكتوب.
ويجب التفريق بين كتابة الكلام في الكتابة، وكتابة الأعيان الموجودة في الخارج، فعندما أريد أن أكتب (جبل) إما أن أرسمه -كلمة جبل اكتبها- فهذا عين موجود في الخارج، لكن لا يمكن أن نقول: إن كتابة الجبل أو كتابة السماء أو كتابة الأرض أو كون السماء أو كون الجبل في كتاب، معناه ذكر حقيقتها العينية، لا؛ بل نقطها وحروفها، أما الكلام فإن حقيقته هي التي تكتب يعني الكلام نفسه يكتب؛ لأنه ينطق به اللسان فيكتب في الكتاب كما هو فيطلق عَلَى المكتوب، ويطلق عَلَى المنطوق، فهذا واضح المخالفة للأعيان.

وإذا قالوا: إنكم تقولون بالحلول فنقول: لا نقول به؛ لأن هناك فرقاً بين الأعيان والذوات المتعينة في الخارج وبين الكلام فالكلام هو اللفظ وهو المكتوب، وليس هناك وجود له خارجي متشخص، فإذا قلنا: كتبنا كلام فلان فيعني ذلك أننا نقلناه من لفظه الذي تكلم به إِلَى الواقع لكن الأعيان إذا قلت: كتبت الجبل أو كتبت السماء أو كتبت زيداً فمعنى ذلك أننا كتبنا اللفظ أو الاسم الذي يدل عَلَى زيد أو السماء أو الجبل، فكتبت الوجود الرسمي الذي عبرنا عنه بالوجود اللفظي، والذي هو في الحقيقة تعبير عن شخصية حقيقية موجودة.
فهم عندما يقولون: القُرْآن عبارة عن كلام الله وهذا المكتوب أو هذا الملفوظ ليس هو كلام الله وإنما كلام الله شيء أخر، فهم الذين تصوروا وافترضوا أن القُرْآن ذات متشخصة موجودة في الخارج، فلما أردنا أن نذكرها ونضعها في المصحف كتبنا وجودها اللفظي أو وجودها الرسمي، وهذا واضح البطلان، فإن القُرْآن أو الكلام بالجملة ليس له وجود عيني متشخص، وليس له ذات خارجية حقيقية، وإنما هو مباشرة من المتكلم إِلَى الورق، وهذا هو المقصود من هذه العبارات أيضاً: